"جائحة فيروس كورونا ستغيّر النظام العالمي إلى الأبد..."؛ قالها الثعلب الأميركي العجوز "هنري كيسنجر" Henry A. Kissinger؛ وما أدراكم ما "كيسنجر" أحد "كبار البناءين"؛ الذين يديرون عملية "بناء وتشكيل وصياغة نظام العالم الرأسمالوي المعاصر"، فاعلاً منذ عقود طويلة ولا يزال؛ وحتى بعد احتجابه متقاعداً، فإنه يستهلك بقية سنواته في الكواليس الخلفية مُنَظِّرَاً؛ وقد وصل من العمر إلى عامه السابع والتسعين (ولد في May 27, 1923).

هنا ينبغي التوقف بوعي، وتأمل بدقة مقصود تلك العبارة الحاسمة: "جائحة فيروس كورونا ستغيّر النظام العالمي إلى الأبد..."، لأن حروفها "تضمر" يقين قائلها "المسكوت عنه"؛ والتي تحسم قراءتها التفكيكاوية المسألة تماماً؛ وهو ما قد اجتهدنا خلال التدوينات السبع السابقات في كشف ذلك المضمر ومستهدفه؛ حتى مع احتمالية تجليسه من وجهة نظر البعض في مربع "مُتَوَهَّم تفكير المؤامرة" المشبوه!!

*****

الداهية العجوز "كيسنجر" قالها، وبذلك ينسف بالمطلق أية قواعد يمكن أن تقام عليها فكرة "نظرية المؤامرة"؛ عندما يؤكد بوضوح مطلق دور "جائحة كوفيد ـ 19" في تعميق توجه نظام العالم كله "المركز والأطراف" للتحول الهائل؛ باتجاه تمكين العولموية في السياسة والاقتصاد. فهل حقاً يكون وباءً ما تم تلبيسه "رداء عولموية التأثيرات" منذ البدء ليُعْتبر سبباً هيكلوياً لتغيير نظام العالم الراهن، وبنيته السياسوية والاقتصادوية المستترة؟

إن من يبحث عن إثبات لحقيقة "مؤامرة فيرسة العالم بكورونا " وليست "نظرية المؤامرة في التفسير" لن يجد إثباتاً ودليلاً أفضل مما كتبه "هنري كيسنجر" في صحيفة "وول ستريت جورنال The Wall Street Journal" بعنوان: "جائحة فيروس كورونا ستغيّر النظام العالمي إلى الأبد... The Coronavirus Pandemic Will Forever Alter the World Order"؛ ففي هذا المقال الكيسنجري إثبات لذلك.

لذلك فمن الضروري ممارسة جهد تفكيك خطاب المقال؛ للإمساك بالمضمر المختبئ والدال على حقيقة مؤامرة "فيرسة العالم" كله؛ والتي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية بضغط نظامها الرأسمالوي الجامح؛ والمضطر بنيويا للتطور، ليهيمن أكثر على خريطة الأرض السياسوية والاقتصادوية؛ وبالتالي تغيير نمط مؤسسات الحكم في دول العالم كله؛ وفي النسق نفسه كذلك... تغيير بنية مؤسسة الحُكم في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها"!

وحين يعلن "كيسنجر" عبر مرحلة "جائحة كوفيد ـ 19 " بدء مرحلة جديدة من مراحل تغيير النظام العالمي؛ فهو لا ينطق خبط عشواء؛ ولا يتكلم محض ادِّعاء؛ ولا يهرِفُ بما لا يعرف؛ بل يذكرنا بمقولة العرب التي منطوقها: "قَطَعَتْ جَهِيْزَةُ قَوْلَ كُلِّ خَطِيْب". و"جَهِيْزَةُ" العالم هنا تكون "هنري كيسنجر"!!

ولمزيد من الإيضاح فإن جهد التفكيك هنا سيقوم على استعراض متن فقرات مقال كيسنجر فقرة فقرة؛ واستخراج المضمر السياسوي الكامن؛ لبناء صورة "المسكوت عنه" بها. وهو ما يكشف الجهد المريب لتغيير هيكلوية العالم الضخمة ـ وهذا هو الشئ المخزي ـ عبر "فيروس" لا وزن له ولا قيمة؛ والمخاطر التي يشكلها تضمحل كثيراً أمام أوبئة قديمة مثل "الطاعون" على سبيل المثال.

*****

إن مقال هنري كيسنجر في "وول ستريت جورنال" يمثل وثيقة كاشفة لخطاب "البناءين" الذين يتولون تشكيل العالم وصياغته؛ بل إعلان بدء مرحلته الجديدة؛ بتعميق التحولات الرأسمالوية وهي في طريقها نظاماً للهيمنة على العالم؛ وصولاً إلى حالة تذويب "الاقتصادات الوطنوية" المتنافسة كلها؛ وإدماجها في طور "المتباعد/ المندمج" بحدود الكوكب!

*****

إن التعبير غير المسبوق سياسويا، والذي استخدمه كيسنجر بوصف الحالة العولموية مع الجائحة بأنها "لحظة سوريالية" تكفي لترجمة مدى الغرابة والاسترابة التي تحيط بعملية "فيرسة العالم" الراهنة؛ إذ تبدو أنها أشبه بـ "عملية الاستيلاد القيصرية" للمرحلة الجديدة من الطور العولموي؛ لذلك وصفها حسب التعبير الفني الحديث بــ "السوريالية" التي تعبر عن مكنونات العقل الباطنوي.

***

إذ يرتد كيسنجر إلى لا وعيه الباطنوي بالقول: "الجو السريالي لوباء Covid-19 يشير إلى ما شعرت به عندما كنت شابًا في فرقة المشاة 84 خلال معركة الثغرة (Battle of the Bulge) في الحرب العالمية الثانية أواخر العام 1944م، حين كان هناك إحساس بخطر ناشئ لا يستهدف أي شخص بعينه، بل يضرب بشكل عشوائي مخلفا الدمار". وهذه العبارة الكيسنجروية المراوغة، تثير التساؤلات حول لا منطقوية المقارنة تلك؛ إلا من أجل مستهدف يرمي إليه بـ"عولمة الخطر المستصنع" من منظور نخبة الرأسمالوية المركزوية؛ إذ:

- يقوم هنري كيسنجر في مقالته الملغومة تلك بإعادة توظيف "الصورة الذهنوية" المرعبة للألمان ومؤشرها "هتلر" بكل ما ألحق به من دلالات العنف والقتل والعنصروية. "كيسنجر" يضع "فيروس كورونا" معادلاً موضوعوياً إلى "هتلر وعنف الألمان" ليستصنع كراهته؛ موظِفاً اصطلاحي "الحصار والقتل".

- عملية تذكر كيسنجر لهذه الواقعة المنقضية في حالة "جائحة كوفيد – 19" مقصودة الغرض؛ لإثبات أن ذلك الفيروس هو خصم للإنسانية مماثل لـ "هتلر"؛ والمطلوب التحرك للقضاء عليه عولمويا... كما جرى القضاء على هتلر بتحالف أوربي – أميركي.

- إن هذا القول يوصف بنمط توظيف "استراتيجية التطويع بالتخويف"؛ والترويج للكوارثوية لتحقيق الهيمنة. حيث أن عصا "الإرعاب بالوباء" تُعادل كما ذكرنا في تدوينة سابقة "عصا التخويف بالإرهاب"؛ ومع تناقص فرص "التصارع العسكريتاري" تتعالى فرص "التصارع بالأسلحة البيولوجوية"؛ وبدلا من "الغزو بالصواريخ" يحدث "الغزو بالفيروسات"؛ وكما للصواريخ تكنولوجياتها؛ فاللفيروسات كذلك تكنولوجياتها الحيوية.

- بهذا التوصيف يبتني كيسنجر بيئة التهويل من وسيلة التدمير المُسيطر عليه بالفيروسات؛ ويستدعي لعبة المقارنة موظِفاً ظلال التدمير بالأسلحة لترويج الصورة المستصنعة بالفيروسات والجراثيم.

***

 ويواصل هنري كيسنجر "فعل الإرعاب" بالقول: "الآن، كما كان الأمر في أواخر 1944م، هناك إحساس بالخطر الداهم، الذي لا يستهدف شخصاً بعينه، وإنما يضرب بشكل عشوائي ومدمر. ولكن هناك فارقاً مهماً بين تلك الفترة البعيدة وزماننا الآن، ففي الماضي تم تعزيز القدرة الأميركية على التحمل بهدف وطني مطلق":

- هنا يلعب كيسنجر دوراً كبيراً في تضخيم الخطر من "فيروس كورونا"؛ حيث يصبح أخطر كما يروج له في ضوء الإشارة إلى ما يشير إليه من تداعي القدرة الأميركية لتحقيق الهدف الوطنوي بإعلان انتصار نمط الرأسمالوية المركزوية الصاعدة والتي انتصرت في الحرب.

- إن هذه الرأسمالوية المركزوية التي تضخمت وتطورت بهزيمة النظام الاقتصادوي المضاد/ الشيوعوي. أنتجت طور ما يُسمى "الاقتصاد العولموي الطرفوي"/ رأسمالوية الدولة العميقة" عبر استقطاب وتوظيف الصين؛ والتي استفادت من المرحلة العولموية للدرجة التي صارت تتنازع فيها الهيمنة مع الولايات المتحدة الأميركية بقوة، والمعروف أن القمة لا تتسع لقوتين؛ فلا بد من نشوء التصارع المتصاعد.

- ويدرك كيسنجر أن "الدولة الأميركية" تُعاني المشكلات البنيوية العميقة؛ بل صارت كجهاز تمثل عبئاً على الرأسمال المركزوي الأساس؛ ولعل كامن "مشكلة العنصروية" وارتباط ذلك بالتفاوت الاقتصادوي لا يوفر استقراراً لهذا الرأسمال.

- والسؤال هل هناك ارتباط بين التغيير العولموي الجديد بـ"أحداث كورونا" وبين "أحداث العنف العنصروية" بسبب اللون المعروفة بـ" مقتل جورج فلويد المواطن الأميركي ذي البشرة السمراء على يد الشرطة بمدينة مينيابوليس"؟!

*** 

ويبوح هنري كيسنجر بتصور مثير حين يروج لحالة مستجدة:"أما الآن، ونحن في دولة منقسمة، من الضروري وجود حكومة فعالة بعيدة النظر للتغلب على العقبات والتحديات غير المسبوقة من حيث الحجم والنطاق العالمي":

- هنا يبدأ كيسنجر ممارسة لعبة استصناع "الصورة المغلوطة" والمخادعة؛ بوصف الولايات المتحدة الأميركية بالدولة المنقسمة؛ ولم يحدد سبب ذلك الانقسام؛ هل هو داخلي لاعتلال عملية التحول للعولموية أم خارجي لاختلال موازين القوة الخارجوية وتوزيعها؟

- إن كيسنجر يتهرب من الإشارة إلى مدى التراجع الذي يطال الدولة الأميركية "كنظام" في دورها العولموي؛ مقابل التصاعد المخيف لدور الصين كدولة تحول اقتصادها للنمط العولموي؛ منافساً طرفوياً يحاول انتزاع موقع المركز في النظام العولموي الجديد.

- لذلك يقترح كيسنجر "الحفاظ على ثقة الجمهور ـ الأميركي ـ حفاظا على "التضامن الاجتماعي" عبر إجراءات معالجة التفاوت الداخلي والعنصروي الراهن".

- غير أنه من المثير حين يخلط كيسنجر الأمور تلبيساً على المتلقي بالقول إن الحفاظ على ثقة الجمهور الأميركي يحقق "ترابط المجتمعات ببعضها البعض، وللسلام والاستقرار الدوليين"!... مقصود تفكير كيسنجر هنا "عولموي"؛ باشتراط ثقة جمهور المركز أي الأميركي.

***

ويواصل كيسنجر تعميق مقصوده لترويج المرحلة الجديدة من هذا النظام بالقول: "تتماسك الأمم وتزدهر عبر الإيمان بأن مؤسساتها قادرة على توقع الكارثة؛ ووقف تأثيرها واستعادة الاستقرار. وعندما ينتهى وباء كورونا، سيتم النظر إلى مؤسسات العديد من الدول باعتبارها قد فشلت":

- هل هنري كيسنجر هنا بهذا القول يكتب شهادة إشهار اعتلال أو يمهد لإعلان وفاة "المؤسسات الوطنوية" وتبيان عجزها عن إدارة شؤون البلدان؛ مدعياً أن الجائحة تمثل أنموذجا لهذا الفشل؛ مهما كان مدى مصداقية وموضوعية تلك الأحكام.

***

هنري كيسنجر يؤكد بثقة أن:" العالم لن يكون كما كان بعد فيروس كورونا... لا يهم ما إذا كان هذا الحكم عادلاً بشكل موضوعى أم لا، فالحقيقة هى أن العالم لن يكون كما كان بعد فيروس كورونا. والجدال الآن حول الماضي يزيد من صعوبة القيام بما يجب القيام به":

- الجدير بالملاحظة هنا أن هنري كيسنجر يدور في حلقة التأكيد على مستهدفه بأن العالم سيتغير بعد كورونا؛ وتبلغ ثقته إطلاقها بعدم اكتراثه " ما إذا كان هذا الحكم عادلاً بشكل موضوعى أم لا"؟!

***

ويوالي كيسنجر التأكيد على مقصوده بالقول: "لقد ضرب فيروس كورونا بضخامة وشراسة غير مسبوقين، وينتشر بشكل متسارع، والإصابات تتضاعف... وحتى كتابة هذه السطور، لا يوجد علاج، والإمدادات الطبية غير كافية لمواجهة موجات الإصابات المتزايدة، ووحدات العناية المركزة على وشك النفاد والانهيار. كما أن الاختبار غير كاف لمهمة تحديد وجود الإصابة، ناهيك عن وقف انتشارها. وقد يتم الحصول على لقاح ناجح خلال فترة تتراوح بين 12 و18 شهرًا":

- هنا يمارس كيسنجر استصناع الصورة الكوارثوية لتأثيرات "فيروس كورونا" مشيراً بالتركيز على ما يحدث في الداخل الأميركي؛ وما ظهر من عجز الدولة الأميركية في مواجهة تأثيرات الفيروس... لماذا؟ لأن الدولة الأميركية هي المسؤولة عن برمجيات وقانون الترتيب البنيوي لفرض العولموية نظاما.

- وما يدعو للاسترابة هنا هو تحديد كيسنجر توقيت " الحصول على لقاح ناجح خلال فترة تتراوح بين 12 ـ 18 شهرًا"؛ وهذا يفضح الاتجاه المشبوه بنفي تفكير "نظرية المؤامرة"؛ إذ أن التوقيت هو ذاته الذي حدده ما يُسمى "التدريب حول فيروس افتراضوي قتل الملايين؛ وقد تم التوصل إلى العلاج الخاص به بعد انتشاره بفترة 18 شهراً" إن كيسنجر يعتمد معلومات ذلك التدريب ليؤكد تصوراته الخاصة بتغير العالم بعد الجائحة.

- إن ما كشفته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عن ذلك التقرير السري الرسمي الذي وضعته الحكومة الفيدرالية على مكتب الرئيس دونالد ترامب حول "وباء فيروسي سيستمر 18 شهرًا أو أكثر وقد يتضمن "موجات" متعددة. هذا التقرير يوضح قصدوية "سيناريو لعبة كورونا".

- وكانت الصحيفة نفسها نشرت تقريرا حول "إغلاق المختبر الأميركي لأبحاث الجراثيم والفيروسات" الذي يتبع القيادة الطبية للجيش الأميركي بولاية ميريلاند أواخر العام 2019م نتيجة مخاوف خاصة بالسلامة؛ من دون أية معلومات تذكر عن أسباب الإغلاق لضرورات تتعلق بالأمن القومي الأميركي حسب ادعاء المتحدث الرسمي باسم المختبر. وذكرت الصحيفة أن هذا المختبر كان يتولى التجارب حول الفيروسات، ومنها الفيروس الأم لكل سلالة "فيروس كورونا".

***

 وإذا كان كيسنجر في مقالته يحدد مستهدفه وبرنامجه بوضوح "إن جهود الأزمة، مهما كانت ضخمة وضرورية، ينبغي ألا تنال من المهمة العاجلة المتمثلة في إطلاق مشروع موازٍ للانتقال إلى نظام ما بعد كورونا"؛ فهذا يعني:

- أن ما يذكره في مقالته يدعو للتأمل؛ فإذا كانت الجهود الراهنة على صعيد العالم كله والمبذولة ضخمة؛ وتسعى لتحقيق السيطرة على انتشار الوباء؛ فما المبرر الذي يقدمه لتحقيق "المهمة العاجلة المتمثلة في إطلاق مشروع مواز للانتقال إلى نظام ما بعد كورونا". من دون شك إنه يعلن هنا البدء في تحقيق الانتقالة الجوهروية للنمط العولموي الجديد".

*** 

ويواصل كيسنجر بناء صورة تصوراته بالقول: "يتعامل القادة مع الأزمة على أساس وطنى إلى حد كبير، لكن تأثيرات الفيروس فى تفكيك المجتمع لا تعترف بالحدود. وإذا كان اعتداء الفيروس على صحة الإنسان سيكون مؤقتًا، كما نأمل، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التى أطلقها قد تستمر لأجيال":

- كيسنجر يمرر هنا النتيجة التي يريد تحققها؛ وهي إعلان وفاة "نظام الدولة الوطنوية" مؤكدأ أن قادتها سيفشلون في التغلب على تأثيرات الفيروس.

- إن تأثير "فيروس كورونا" على صحة الإنسان سيكون مؤقتاً بإعلان التوصل وتصنيع المصل المضاد له؛ لكن وهذا هو الأخطر ما يعلنه كيسنجر عبر التبشير باضطرابات سياسوية واقتصادوية عميقة وعويصة وقد تستمر لأجيال!!

- إن كيسنجر يبتني هنا خطاب "الضرورة والحتموية" في الإنتقال إلى المرحلة الحقيقية من العولموية؛ أي "ما بعد مرحلة الدولة الوطنوية". إنه يبشر بـ "الحكومة فوق الدولاتوية/ الحكومة الخفية"؛ التي يشكلها "الرأسمال العولموي"؛ وهو يحول العالم كله إلى مصنع متعدد الأفرع؛ أو مزرعة لها مالك واحد والبشر كلهم يكونون الشغيلة المتشكلة من: (الآلات العملاقة ذات الإنتاج الكثيف والخُدَّام/ العمال من البشر الذين لا يتداخلون في عمليات التصنيع بدور أساس مع هيمنة الأنظمة السيبراناتوية التي تتحكم؛ وتدير كل العمليات تقليلا لفرص الاخطاء وتحقيق وفرة المنتجات).

- إن الوصول إلى هذه الصيغة الإنتاجوية العولموية لن تكتمل إلا بعد دورات من الاضطرابات السياسيوية والاقتصاديوية التي تتسبب "كورونا" في إحداثها وقد تستمر لأجيال.

***

 ويعمق هنري كيسنجر صورة التوجه العولموي بقوله: "لا يمكن لأية دولة، ولا حتى الولايات المتحدة، أن تتغلب على الفيروس بجهد وطني محض، فيجب أن تقترن معالجة ضرورات اللحظة في نهاية المطاف برؤية وبرنامج للتعاون العالمي. وإذا لم نتمكن من القيام بالأمرين معا، فسوف نواجه أسوأ ما في كل منهما":

- إن كيسنجر هنا يبشر بإعلان عجز صيغة "الدولة الأميركية الوطنوية" ـ وكذلك "كل الحكومات في العالم" ـ عن هزيمة الفيروس؛ لذلك يدعو لاتباع الرؤية والبرنامج العولموي للتعاون.

- إنه بذلك يؤكد حتموية الانتقالة للنظام العولموي؛ بإعلان انقضاء نمط جهد "الدولة الوطنوية".

- إن عولموية مواجهة الجائحة ستفرض بالضرورة عولموية إعطال تأثيراتها؛ وبالتالي إثبات فشل النمط الراهن من الحكم الدولاتوي في التعامل مع المتغيرات؛ وهذا يقتضي انقضاء زمان نظام الدولة الوطنوية وصلاحيتها.

***

 ويضع هنري كيسنجر حسب تصوره المبشر أجندة التحول المستهدف بالقول: "إن استخلاص الدروس من تطوير خطة مارشال ومشروع مانهاتن يلزم الولايات المتحدة ببذل جهد كبير في 3 مجالات":

- يستدعي كيسنجر هنا من خبرات النظام الرأسمالوي الأميركي في بدايات تمركزه ما يهتدي باقتدائه في الانتقالة الجديدة؛ إلى تعميق المرحلة المنتظرة من النظام السياسوي والاقتصادوي العولموي. فحسم قضية إنهاض أوروبا بعد تدميرها بـ "الفيروس الهتلري" سابقا قد أُنْجز بالجهود الأميركية؛ أما الإنهاض الجديد للعالم كله؛ فيأتي أيضاً بمشروعين أميركيين مماثلين لمشروعي التدشين الأول لطور تمركز الرأسمالوية الأميركية بـ "مارشال ومنهاتن".

- فـ"مشروع مارشال" اقتصادوي و"مشروع منهاتن" ردعوي أو للحماية بالقنبلة النووية. وتذكير كيسنجر بهما يكشف مضمراً مسكوتاً عنه؛ عبر المنهج الذي سيُطور النظام الراهن من العولموية اقتصادوياً "مارشال" وتسليحاوياً "مانهاتن".

- إن الإشارة إلى "مشروع منهاتن" يعني عدم إغفال الثعلب العجوز لضرورات القوة الردعوية؛ التي تُسْتَخدم لحماية الرأسمال العولموي في حالة تهديده من طرف قد يُضاد التوجه العام مثل "روسيا أو الدولة الصينية؛ إذا فكرتا في الانقلاب والهيمنة على النظام الجديد عبر تعملق طور رأسمالوية الدولة الراهن".

***

 ويحدد كيسنجر خريطته: "أولاً، دعم المرونة العالمية تجاه الأمراض المعدية. فنحن نحتاج لتطوير تقنيات وتكنولوجيات جديدة لمكافحة العدوى وإنتاج اللقاحات المناسبة عبر مجموعات كبيرة من السكان":

- إن ما يطالب به كيسنجر من تقنيات وتكنولوجيات متعلقة بالعدوى واللقاحات بكثافة يكشف المضمر في كلماته؛ وطبيعة تحولات الحروب؛ حيث سيتغلب "نمط الحروب البيولوجوية" لتعميق الربحوية عبر الدواء؛ واللقاحات مع تناقص الاستثمارات في مجال التسليح؛ طالما أن التصارع بين النظامين التقليديين انقضي؛ بانهيار المعسكر الاشتراكوي؛ أو المنافس السياسوي والاقتصادوي.

- وهذا التوجيه يصل بالعقل التفكيكوي إلى أن أحجام الابادة للبشر ستقل عبر تصنيع الفيروسات؛ وتطوير أكواد معالجاتها لتنشيط الرأسمال الدواءوي وتعظيم ربحويته؛ بتوسيع أسواق استهلاكويته " عبر مجموعات كبيرة من السكان".

- إن الرأسمال العولموي سينزع في ارتقاء تحولاته لتقليص غايات الحروب وإعطالها؛ في ضوء تحقق هيمنته وتسيده للعالم؛ لكي لا يحقق التناقص في أعداد المستهلكين في العالم بقتلى الحروب؛ إذ الحروب في زمن القنابل النووية تحقق تقليصا لطاقات الاستهلاك والشراء؟

***

 إن البند الثاني الذي يقترحه كيسنجر هو: "ثانيًا، السعي لمعالجة جراح الاقتصاد العالمي، فالانكماش الذي أطلقه كورونا، في سرعته ونطاقه العالمي، غير مسبوق في التاريخ. وتدابير الصحة العامة الضرورية مثل التباعد الاجتماعي وإغلاق المدارس والشركات تفاقم الألم الاقتصادي. وينبغي أن تسعى البرامج أيضاً إلى تخفيف آثار الفوضى الوشيكة على أضعف السكان في العالم.":

- حين يركز كيسنجر على الاعتلال الاقتصادوي الحادث انكماشا في العالم وبشكل غير مسبوق؛ فهو يستهدف ترسيخ السيناريو الموضوع للفيرسة العولموية؛ لأن الانكماش والجراح الاقتصادوية لم يكن لها وجود قبل تعميم الفيروس ونشره في العالم؛ ولربما كانت الاقتصادات تعاني بعض التباطؤ في نمطها التقليدوي حسب دوراته المتعارف عليها؛ ولكن تعطيل عجلة الاقتصادات عن الدوران بمباغتة التخويف والإرعاب قاد مناشط اقتصادوية كثيرة إلى الدمار؛ مثل تعطيل اقتصادات السفر والانتقال والسياحة والترفيه؛ وتجميد حالات التشغيل لتعميق ظواهر البطالة؛ غير أنه في المقابل نشطت إلى درجة الشره اقتصادات أخرى مثل الغذاء والدواء والوقاية.

- إن ما يتحدث به كيسنجر عن التباعد الاجتماعوي؛ وإغلاق المدارس والشركات؛ هو في حقيقته كان تدريبا استباقيا على كيفية إدارة أنماط العمل والدراسة عبر "المنظومة السيبراناتوية/ الشبكاتوية". وهذه المسألة مؤلمة في ظاهرها؛ غير أنها ضرورية لتنفيذ سيناريوهات الخلاص من بيئات العمل النمطوية في أماكن محددة؛ وببنية مكتبية وموظفين كبار السن وضعاف المهارات الإليكترونية.

- وما يثبت ما طرحه هنري كيسنجر... ذلك الرأي الذي صرح به أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة من "أن عودة أساليب العمل إلى ما كانت عليه قبل فيروس كورونا الجديد أو ما بات يُعرف باسم "كوفيد-19" هو أمر غير ممكن، لافتا ـ حسب (CNN) ـ إلى أنه يمكن الوصول إلى "وضع طبيعي جديد أفضل إذا كنا استباقيين".

- واستجابة ودلالة على التحول فإن الدولة الطرفوية/ "مصر أنموذجا" تقرر رسمياً "اعتماد نظام التعليم عن بُعد" والأبحاث من العام المقبل. وهذه هالة السعيد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية المصرية الحالية تعلن أن: "التحول نحو الاقتصاد الرقمي أصبح مسارا إجباريا"!

***

 ويصل هنري كيسنجر إلى ما يُسمى مربط الفرس بقوله: "ثالثاً، حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي، فأسطورة تأسيس الحكومة الحديثة تقوم على أنها مدينة محصنة يحميها حكام أقوياء، بما يكفي لحماية الناس من عدو خارجي":

- هنا يُسفر كيسنجر عن تأكيد مستهدفه الأساس حول مبدأ "حماية النظام العالموي الليبرالوي"؛ بالقفز إلى تعميق النهج العولموي؛ بما يوفر هذه الحماية لتسكين ولجم تصاعد حُمَّى أكتشاف الملايين من الغربيين مدى تهافت ما يُقال عن متوهم "تلازم الديموقراطية والليبرالية" والتي تتشدق بها النخب السياسوية؛ وهي في حقيقتها فشلت في تلبية الاحتياجات المأمولة لأغلبية جماهير النظام الرأسمالوي.

- كيسنجر يدرك مخاطر الفخ الذي تقاد فيه الجموع الشعبوية في العالم الرأسمالوي أو الليبرالوي( فرنسا وبريطانيا وألمانيا؛ إلخ) للاحتجاج والتمرد على النظام الرأسمالوي والليبرالوي؛ عبر جماعات المتنشطين والمتأدلجين والتي ترفع شعارات: "البريكست البريطانية للانفصال عن أوروبا" وحركة " احتلوا وول ستريت الأميركية" والاحتجاج بـ "السترات الصفراء الفرنسية" أنموذجاً!!

- كيسنجر يقود في خطابه التأكيد على ضرورة أن تكون الحكومة الحديثة ( يقصد الحكومة العولموية) حكامها أقوياء، لمبرر محدد وهو "ما يكفي لحماية الناس من عدو خارجي"؛ والمنطقي بعد الانهيار البنيوي للنظم السياسوية المنافسة "الاتحاد السوفياتي القديم " وعجز النمط الدولاتوي الراهن عن حماية العالم من "فيروس كورونا" لا بد من اختراع عدو خارجي جديد؛ وليكن حسب "مفاهيم الحروب الحديثة" هو "الفيروسات والميكروبات" التي تعتبر أسلحة "الحروب البيولوجوية" بديلاً عن "الحروب العسكريتارية".

***

 إن ما يختتم به كيسنجر خريطة الطريق للمرحلة الجديدة من العولموية تثبت منهجويته الصانعة للنمط السياسوي العولموي بقوله: "لقد انتقلنا من معركة الثغرة (نهاية الحرب العالمية الثانية) إلى عالم من الازدهار المتزايد وتعزيز الكرامة الإنسانية. والآن، نعيش فترة تاريخية. وبات التحدى التاريخى للقادة هو إدارة الأزمة وبناء المستقبل، لأن الفشل قد يحرق العالم":

- وهذا المتخيل بالإغراء الذي يختتم به كيسنجر مقالته يعد الناس بعالم أكثر ازدهاراً؛ ومعززاً للكرامة الإنسانوية شريطة النجاح في إدارة الأزمة الراهنة مع الجائحة وبناء المستقبل الذي لا يعرف الكثيرون ماهيته.

- ولكن كيسنجر يدرك ملامح وقوانين النقلة الجديدة في النهج العولموي الذي جرى خلاله توليد واستصناع فيروس كورونا ليقود الفكر الرأسمالوي المركزوي للهيمنة المطلقة على العالم.

- كيسنجر لكي يعمق التأكيد على "المسكوت عنه" لا يرى مطالبا بالدفاع عنه وحمايته غير النظام العولموي الليبرالوي؛ نظام اقتصاد الأموال عبر أسواقها في البورصة كمعيار للحكم على مدى نجاح أو فشل النظام الاقتصادوي.

فهل يتحرك هنري كيسنجر بهذا الطرح الواثق بتغيير النظام العولموي مُسلحاً بما تجري هندسته خلال المؤتمر السنوي لنادي "نخبة بيلدربيرغ" الذي تأسس في العام 1954م بهولندا؛ والموصوف بأنه ـ حسب موقع RT الإخباري ـ ( يضع أجندة "الحكومة العالمية الموحدة" والتي تتحكم بسياسات واقتصاديات العالم من خلال جلسات عصف فكري على مدار ثلاثة أيام لا تخرج نتائجها للعامة، ولكنها تصل مباشرة لصُنَّاع القرار في الحكومات والبرلمانات المعنية). ويشغل به كيسنجر موقع رئيس اللجنة الإدارية لمؤتمره!!

*****

"جائحة كوفيد ـ 19" بالنسبة للجماهير على صعيد العالم تقاس مخاطرها بعدد الموتى؛ والمصابين منهم وحجم الشفاء؛ لكنها بالنسبة للثعلب العجوز هنري كيسنجر مهندس الفكر السياسوي المؤسس للنظام الذي يحكم تطور العالم؛ تعتبر هذه الجائحة لعبة رأسمالوية لتحقيق قفزة انتقال بنيوية مستصنعة لمرحلة جديدة من نهج العولموية؛ كما كشفتها مقالة كيسنجر في لعبة مقصودة شئتم أم رفضتم. إن هذه لحظة تأمل "مسكوت عنها" بل "غير ملتفت إليها"؛ وفي الحلقة التاسعة استجلاء للصورة أكثر!

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).